رسالة إلى كل أم: ما تُقدّمينه أنتِ لن يعوضه أحدٌ غيرك

مساء الخيرات 🤍

أكتُب هذه التدوينة بعد أن أنهيت بعض الأعمال المنزلية العالقة منذ الصباح، لأنني صباح اليوم أخذت ياسين لأخذ لقاح شلل الأطفال، يقدمونه الآن في الجزائر للأطفال خارج الجدول الزمني للتلقيحات، وتعجّ المراكز بالاطفال والازدحام… لهذا علقتُ صباح اليوم هناك، وتراكمت الكثير من المهام للمساء.

بعد أن أكملت المهام جلستُ لالتقاط أنفاسي قبيل أذان صلاة المغرب، وتصفحت عدد اليوم من نشرة عمق، وخلال القراءة خطرت لي فكرة هذه التدوينة. فأسرعتُ لالتقاط الأفكار التي خطرت لي.

الأمومة وأزمة الهوية

تشعر الأم بعد إنجاب مولودها أنها عالقةٌ في نفس المكان، يسافر الجميع بينما تجلس هي للاعتناء برضيع صغير لا يستطيع حكّ رأسه دون مساعدة، تخرج الكثيرات للعمل بينما هي عالقةٌ بين تغيير الحفاظات وتعقيم قارورات الحليب.

تشعر وكأنها عالقة في سلالم متحركة، بينما يصعد على يمينها الكثير من الناس، وينظرون إليها باستغراب، في حين ينزل الآخرون على شمالها، ويرمقونها بنظرة دونية أو متعالية في الغالب، ومن النادر أن ينظر إليها أحدٌ نظرة تعاطف، بينما يقول لها: أنا أفهمك، وأنت لست وحدك. (مرت أكثر من سنة ولم يحدث ذلك معي).

تقع الأم بين خيارين ولا تدري أيهما تختار، هل تكرّس حياتها لعائلتها وتصبح أمًا جيدة، أم تستمر في الترقّي في السلّم الوظيفي على حساب عائلتها؟ وهي تعرف جيدًا أنّ إمساك العصا من المنتصف أصعب من كلا الخيارين، تمضي الأيام بينما هي تقاتل تلك الأفكار الشرسة في صمت، وتستمرّ بالشرود أكثر والحيرة تأكل داخلها.

سيخبرها الكثيرون أنّ الأطفال يكبرون بسرعة وعليها اللحاق بمستقبلها المهني، بينما تخبرها الأخريات أنّ البقاء رفقة أطفالها أهمّ، ويأتي الإنجاز والنجاح الوظيفي لاحقًا، وكلاهما يمتلك من الحجج المقنعة الكثير، وهذا ما يصعّب عليها مهمة الاختيار.

سيأتي شخصٌ يذكّرها بما سبق وقلته كل يوم، سيُشعرها بالنقص وسلوك الطريق الخطأ، متناسيًا ما تشعر به هي، وما تريده. لا أحد يملك الوقت أو الجرأة بأن يسألها مالذي تريده هي، ثم يُنصت لها بحق ويحترم قرارها ويتوقف عن اللعب بأزرار اللوم والتأنيب لديها.

وهنا أقول لك عزيزتي الأم المشتتة، أنتِ تغيرتِ… فلا داعي للسعي إلى استرجاع نسختك السابقة قبل الأمومة. وأغلقي باب عقلك دون الآخرين، ولا تسمحي لأحد أن يُشعرك بالتأنيب لأنك اخترتِ الأمومة وضحيتِ بسنوات الخبرة وسنوات الدراسة، والدورات الإضافية… كل ذلك لم يذهب هباءً منثورا، بل أنتِ تضيفين إليه نوعًا آخر من الخبرة فلا تستعجلي نفسك.

فتوقفي عن الشعور آخر اليوم بعدم الإنجاز، والتفتي إلى تلك النعم الرائعة التي حباكِ الله بها، بينما حرمها كثيرون. أذكر ذات يوم أنني قصرت في أعمالي مع شخص أعمل معه، وهو يعرف أنني أم جديدة، فاعتذرتُ منه على التقصير، وقد لمس بيت كلماتي مشاعر الأسف.

فردّ برسالة رائعة، أذكر أنني ملأت ليلتي تلك بالدعاء له، لقد قال فيما معناه: أنّ ما أفعله أكثر بكثير مما أتخيّل، وأنا لم أقصّر وحتى لو قصّرت فأنا معذورة. هدّأَت رسالته نفسي تلك الليلة، وأراحت قلبي المثقل بالمسؤوليات، خاصة حين نكون في بيئة لا تقدّر، ولا سيما إن كنّا نحتفظ بذلك الصراع الخفي لأنفسنا ولا نشاركه مع أحد.

تقدير الإنجازات الصغيرة

بعد أن غيّرت نظرتي للإنجاز وبدأت أستمتع بكل تطورات ياسين وعلى جميع المستويات، تخلصتُ من ذلك الشعور المزعج الذي يباغتني كل ليلة، خاصةً مع وحش مواقع التواصل الكاسر الذي يُشعرك كل يوم أنك في سباقٍ للإنجاز، وإن لم تنجز كما يُظهر لك الآخرون، فأنت أقلّ منهم.

بعد أن أصبحت أمًا أصبح لزامًا عليّ تغيير قائمة المهام، لم أدون سابقًا أعمال صغيرة مثل الاتصال بشخصٍ ما، أو ترتيب جزءٍ من البيت، أو حتى تحضير شيء ما من أجل تخزينه في المجمد. لكن الآن أصبح عليّ فعل ذلك وإلا نسيت فعله، ليس فقط بسبب كثرة المهام، وإنما بسبب التغيرات التي تحدث للمرأة بعد مرحلة الحمل والولادة.

وأصبحتُ أفرح بالتغريدة بدل التدوينة، وأحصل على نفس جرعة الدوبامين، حتى قراءة عددٍ من نشرة أحبها أصبح يُعادل قراءة كتاب، بعد أن أصبحتُ أفتح الكثير من الكتب لقراءتها، ولا أنهي أي واحد منها في نهاية المطاف، والسبب هو النسيان أكثر من إيثار مشاهدة فلم على القراءة، فلستُ من هواة الأفلام ولا غيره…

أعيدي اكتشاف نفسك

بدل فتح بوابة قلبك وعقلك على مصراعيها -كما فعلتُ أنا في السابق- لمواقع التواصل الاجتماعي ولمدّعي النصح ومصلحتك، أعيدي اكتشاف نفسك وقدراتك، فلا أحد يعلم حالة عائلتك حتى يملي عليك ما يجب، وما لا يجب فعله، بل أنت الوحيدة القادرة على قيادة نفسك، وفق ما تقتضيه ظروف حياتك.

أغلقي بواباتك وركزي على نفسك، وتذكّري… لستِ في سباق مع أحد، فاحترمي فصول حياتك، فكل أم تختلف مرحلتها باختلاف أعمار أطفالها وصحتهم وظروفهم، ولا يوجد أم تشبه أمًا أخرى، لتقدم لها خريطة طريق حسب تجربتها، تجربتك فريدة وتختلف باختلافك أنت واختلاف أطفالك.

لا أدري إذا كنتِ من هواة الكتابة، لكن إذا كنتِ كذلك استعيني بها لاكتشاف نفسك من جديد. وأنا هنا لمساعدتك بأي طريقة تناسبك، يكفي أن تحرري نفسك وتطلقي العنان لأفكارك، وتشاركي قصتك مع الأمومة والتغيرات التي جلبتها إلى حياتك.

وإن استطعت الموازنة بين أسرتك وحياتك المهنية، شاركي رحلتك… (كما فعلتُ مع رحلتي مع ياسين) فالكثير من الأمهات يغرقن في الحيرة، وكابوس المقارنة الذي يحمله المجتمع ويوجّههٌ على جباههنّ دون رحمة، بادري وشاركي تجربتك، فلربما تنقذ قصتك إحداهنّ من الحيرة والتأنيب.

أشعر أنّ هذه التدوينة مشتتة، والأفكار ليست مرتبة كما رأيتها في عقلي، لكنني سأنشرها فقد تستفيد منها أي أم عاشت نفس الشعور الذي عشته، وفي الأخير سأقول لكِ يا عزيزتي: لن يحزن عملك إذا تركته، فلم يسبق لي سماعُ أنين المسودات التي لم أكملها لأجل ياسين.

ولم أرَ صحونًا قط تذرف الدمع لأني لم أغسلها وأعِدها لمكانها، ولم يسقط جدارٌ ولا أرضية تحطمت بسبب الغبار، لكن ياسين يحزن ويذرف الدمع ويتعلق بي ويلحقني من مكان إلى آخر إذا تركته، أو لم أطعمه في موعد الطعام، لأنّ ياسين إنسان وليس له غيري.

ولم يشكرني أحدٌ على المنزل المرتب، ولم يصفق لي أحدٌ حين أُنجز وأكتب… لكن لو أفرّط في ياسين قيد أنملة (طبعًا لا أدعو للتفريط بالصغار)، سينهال عليّ الجميع باللوم… ومع أنهم لم يمدحوني يومًا لكوني أمًا جيدة، سيستغلون فرصة أي خطأ لمحاكمتي ولومي ووصفي بالأم السيئة.

فلا تسمحي لأحد بأن يهين أمومتك، أو يتهمك بالتقصير… ولا تلومي نفسك على قلة الإنجاز (كما يصنفه الآخرون)، فأنت بتربيتك لصغيرك، لا تنجزين فقط بل أنتِ تبنين إنسانًا. (وأسأل الله الصلاح لي ولكم ولأطفالنا جميعًا).


أشكرك على قراءتك. ويسرّني استقبال رسالتك، أو طلبك لخدماتي، أو استشارة في الكتابة

بصدر رحب على واتساب.


حقوق الصورة البارزة: من تصميم الذكاء الاصطناعي.


اكتشاف المزيد من مدوّنة دليلة رقاي

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

رأي واحد حول “رسالة إلى كل أم: ما تُقدّمينه أنتِ لن يعوضه أحدٌ غيرك

أضف تعليق