أنا ابنة حرام وأجلس الآن في المطار. والسّاعة قاربت على منتصف الليل، اقتربت مني جدتي وضمّتني كما لم يفعل أحدٌ من قبل، كان حضنًا دافئًا وصامتًا ويحمل في طياته الكثير من الأسئلة التي ليس لها إجابات أو على الأقل حاليًا…
شعرتُ أنني نضجتُ وأنا أُنصتُ لدقات قلبها وهي تتمتم لي بالدعوات والصلوات، كبرتُ حتى أدركتُ أنني على وشك أن أخسر إحدى الأحضان التي احتوتني دهرًا دون أدنى حزنٍ أو كسر خاطرٍ ولا حرقة قلب…
رغم كل الفوضى التي تلفّ المطار إلا أنني كنت أسمع جيدًا ما تقوله عيون جدتي، كانت حريصة على إيصال معنى واحد وكانت نظراتها تقول لي:
اعتني بنفسك كما تفعل الأم مع طفلها…
ابق سعيدة لأنّ السعداء يتجاوزون كل مساوئ الحياة وأسوأ الأشخاص بابتسامتهم الصادقة…
وقالت أيضًا كوني مُحبّة ولا تبخلي على أحدٍ من رحيق قلبك…
بالحب فقط يمكنك أن تعطي الآخرين قوةً لتجاوز آلامهم…
وكأنها تقصد أنه لا أحد يكتفي من الحب فلا تبخلي بمنحه، ولأنه لا أحد اكتفى من الحب الصادق في صغره أو على الأقل مُنحَ الحبّ بطريقة صحية …
النّاس وإن اختلفت طرقهم يبحثون عن الحب الصادق ويُفتِشون كالمجانين عن التقبّل…
أن يتقبّلهم أحدٌ ما دون أن يؤشّر بأصبعه إلى مساوئهم وعيوبهم…
هم يعرفون عيوبَهم ويدركون مساوئهم ومستائين منها بما يكفي فما فائدة أن يأتي أحد ويسلّط الضوء عليها، وكأنه يرى الجرح ونزيفه ثمّ يضغط عليه…
قبل أن تغادر جدتي إلى بلدٍ آخر وربما لعالمٍ آخر، لإجراء عملية جراحية بالغة الخطورة في المخ، أعطتني مذكرات وهمست في أذني أن دوّني فيها الأخطاء والسخافات التي ارتكبتها منذ مراهقتك، وحتى التي لم ترتكبيها، دوّني كل شيء حتى الأقدار التي ظُلمًا تحمّلتيها…
دوّني كل شيء مهما كان خطيرًا أو سخيفًا، ستكتشفين في النهاية جواهر من الحكم وستتعرّفين على شخص في غاية الروعة يختبئ من أحكامك ونظرة الآخرين غير المنصفة لك في مكان ما من دهاليز روحك…
ستكتشفين كم أنّ الحياة سخيفة ولا شيء فيها يستحقّ أن تحرقي روح شخصٍ لأجله…
بعد أيام غادرتني جدتي لأن عمليتها باءت بالفشل لكن كلامها لا يزال يزورني ويُعلمني الحب في كل مرة أكتب فيها على تلك المذكرات …
لازلتُ ممتنةً لذلك الحضن والأنس واللحظة الممتدة التي عشتها بين ذراعي جدتي، وممتنة للوصية التي لو لم أعمل بها لكنت اليوم وحيدةً تحتوي ضعفي أسرّة المستشفيات. وأطرق أبواب الأطباء النفسيين بابًا تلو الآخر…علّ أحدهم ينتشلني مما كنت سأغرق فيه…
جدتي كانت تعرف أنّ ما عشته لن يبقى خامدًا لفترة طويلة، وإنما سيعود ليظهر إلى السطح وينفجر كبركان ليحرق الأخضر واليابس…
أوصتني بالكتابة وكأنها تعرف أنني مع كل صفحة أملأها من تلك المذكرة كنت أبتعد أميالا عن العيادات النفسية وأقترب بضعة أمتار إلى نفسي…
نفسي كانت أعمق من أن أصل إليها ببضع صفحات، لكن تلك الصفحات القليلة كفيلة أن تُنجيني من جلسات الاستشارة النفسية الرتيبة والقاتلة…
كانت جدتي مصابةً بالخرف وضعف البصر، لكنها كانت ترى وتدرك ما تعانيه فتاةٌ مثلي…
لذلك أعطتني مفتاحًا سحريًا لأجد من خلاله البوابة التي ستقودني إلى أعماق نفسي لأعيد تطهير تلك الذكريات التي حملتها منذ لحظة ولادتي، وحتى تلك التي حملها الناس إليّ حتى قبل ولادتي…
كانت ذكريات كفيلة أن تقتل فيلا كاملا لمجرّد أن يسمعها، لقد أدركت أنّ البشر قادرين على الإيذاء بطرقٍ فضيعة ولن يرفّ لهم جفن… ولن يرحموا ضعف أحد، وأنا أعني ما أقول حرفيًا يمكن للإنسان أن يسموا حتى يتجاوز درجة الملائكية ويدنو وينحطّ حتى يكون في منتهى الظلم والأذى والقبح الشيطاني…
لقد رأيتُ كل ذلك، في عيون المدعوّة خالة أمّي حين نظرت إليّ وأنا ابنة التسع سنوات وقالت لي أنت إبنة حرام، بنت ولدتِ من رحمِ الخطيئة وصلبِ زنا المحارم…
حينها وقفت مذهولة من هول ما قالته تلك العجوز التي لم أحبها يومًا لأنني لم أر الرحمة قط تشع من عينيها عدا الكيد والحقد والحسد… وعشتُ منذ ذلك اليوم التنمر بكل انواعه، وناداني البعض بكل الأوصاف الدنيئة، حتى أقارب والدتي أحرقوا روحي بأوصاف رخيسة وقبيحة…
أخبرتني جدتي لاحقًا أنّ أمي انتحرت بعد ولادتي لأنني حقًا نتيجة اعتداء زوج خالتي على أمي، وتلك المدعوة خالتها لم تحرّك ساكنًا واتهمت أمي وحمّلتها المسؤولية وأمي لم تتحمل فأنهت حياتها بعد أن منحتني الحياة…
بفضل نصيحة جدتي تجاوزتُ كل ذلك، وأنا اليوم أنصح كل شخص لديه جراحٌ عميقة لازالت حيةً وتنزف وتنخر روحه أن يكتب… لن تتجاوز بسهولة. ولن تُشفى من تلك الجراح لكنك ستتعوّد على العيش في وجودها، ستسمح لها بمرافقتك، لكنك لن تسمح لها بأذيتك.
أكتب تلك الآلام لأنّ في كتابتها يكون خلاصُك وتكون نهايتُها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حقوق الصورة البارزة: Photo by Hadi Slash on Pixels