كيف صنع لي معهد الترجمة عقدة مع الترجمة نفسها؟

يا مساء الخير…

أكتب تدوينة اليوم وأنا أجلس إلى مكتبي الجديد، الذي كلما نظرتُ إليه تذكرتُ حجم التقصير في حق الكتابة التي وصفتها بطفلي ذات يوم. وقد سبق وتحدثتُ عن ذلك في تدوينة سابقة.

تخرجتُ من قسم اللغة الألمانية صيف 2015، ولم أكن فخورة أبدًا بتلك الشهادة، فقد ذهبتُ لاستخراجها دون أي فرح، وإنما ذهبتُ كمن يذهب لاسترجاع أمانة أودعها عند أقوام، فلا هي بالمهمة جدًا، ولا يمكن تركها لأسباب مجتمعية.

حسنًا، لنترك مأساة الجامعة جانبًا… هي بالفعل مأساة كلما تذكرتها أشعر بألم عميق في قلبي. لا أتقنتُ اللغة الألمانية، ولا أتقنتُ الترجمة… ولا أنكر أنّ تلك السنوات علمتني الكثير، لكنها للأسف لم تعلّمني ما ذهبتُ لأجله. أستطيع التقديم على تعليم اللغة الألمانية لتخدير نفسي قليلًا، لكن سأضيف لألمي ألمًا أكثر…

بعد التخرّج قدمتُ على شهادة الماستر في قسم اللغة الألمانية، تخصص لسانيات. وبعد قبولي حضرتُ حصةً واحدة لا غير… وكنتُ أشعر بالاشمئزاز مما يُقدّم في تلك الحصة، كنتُ أراها استخفافًا بعقول الحاضرين، أكثر مما هي مفيدة.

وكان الأستاذ أبعد ما يكون عن الأستاذية، قد تقول عني مغرورة، أو حمقاء أو أي شيء… لكن، كانت حصة سيئة جدًا، وكنتُ ألتفتُ إلى الحاضرين وأتمعّن وجوههم، وأتساءل في نفسي، ما كل هذه الغربة؟ لِما لا يوجد شبهٌ بيني وبينهم، كنتُ مختلفة عنهم بشكل رهيب، وتأكدتُ أنّ هذا ليس مكاني مطلقًا.

فذهبتُ وسجلتُ في معهد الترجمة والتسجيلات على مشارف نهايتها، لم أتوقع القبول… لكن ما هي إلا أيام حتى ظهرت النتيجة، ووجدتُ اسمي ضمن المقبولين في تخصص ترجمة ولسانيات. فعدتُ للإقامة يومها وأنا أفكّر في مصيري.

وفي صباح اليوم التالي عقدتُ العزم على الذهاب لسحب ملفّي من قسم اللغة الألمانية، وإيداعه بمعهد الترجمة. للأمانة لقد كنت متفائلة جدًا بمعهد الترجمة، واعتقدتُ أنني سأمارس الترجمة وأتعلّم. لذلك بدأتُ في تحميل عددٍ من كتب الترجمة وقراءتها…

وما هي إلا أيام خلال دراستي في تخصص الترجمة واللسانيات، حتى اكتشفت أنّ القصة ذاتها تدور داخل جدران المعهد. وكم كنتُ حمقاء حين اعتقدتُ العكس، وما زاد الطين بلّة، أنني تعرفتُ على أستاذ لغة إسبانية قد درس الترجمة في الألفينات في نفس المعهد، وعاد لأخذ شهادة الماستر لأغراض مهنية.

كان الرجل فنانًا للأمانة، كان يتقن الترجمة الفورية من العربية إلى اللغة الفرنسية، وقد عمل مع عدة أطباء أجانب في جنوب البلاد، وكان مثقفًا ومحترِمًا لوقته دون الأغلبية، ويعتذر عن حضور الحصص بلباقة. كان يرمقني بنظرات شفقة، ويسألني دائمًا: دليلة، لِما أنتِ هنا؟ قال ذلك عدة مرّات. كان مثال الطالب الذي يتفوق على أساتذته.

حتى أنّ بعض الأساتذة كانوا يرتبكون حين يسأل أو يناقشهم في موضوع ما، ومنهم من كان يفرّ من النقاش معه فرار الأسد، وفي كل مرّة أرى فيها عدم تمكّن الأساتذة من مجالهم، أتساءل: كيف يملك هؤلاء مكاتب ترجمة معتمدة؟

أذكر أنني حين سجلتُ في معهد الترجمة، حلمتُ أيامًا وليالٍ باحتراف الترجمة، وافتتاح مكتب ترجمة خاص… يا إلهي على خيالي الخصب، وأحلامي الطامحة الشاطحة.

في نهاية المطاف، كان الجميع يحفظ المقررات كما هو الحال في أغلب الجامعات. أما عن صديقتكم الطامحة، فلم تحفظ شيئًا، وكانت تغيب كثيرًااااا… ولا تحضر إلا عند أستاذة واحدة بكل حب وشغف. أما البقية فغيابٌ أكثر من حضور، أما إحداهنّ فلم أحضر عندها موسمًا كاملًا. وقد عاقبتني بعلامة سيئة جدًا في الامتحان، تبًا لها، تظنّ أنها عاقبتني…

لم أحزن أبدًا على المعدلات التي حصلتُ عليها، رغم أنها كانت جيدة وقد تمثّل حلمًا عند بعضهم، لا أتفاخر بنفسي لكن… رأيتُ في نفسي قدرةً وتأهيلًا أكثر مما كانوا يروني عليه، لذلك احترمتُ نفسي، ووقتي ولم أحضر حصص بعضهم، التي تشبه خطابات بعض السياسين الذين يقرؤون من الورقة، ويجرحون المنصت بأخطائهم ونطقهم السيء، وهم يكسرون الفاعل كسرًا، ويجرّون المنصوب جرًا…

اقترب لأخبرك سرًا، لقد رأيتُ أمثال هؤلاء حتى في مؤتمر أو ملتقى جمَع عدة معاهد للترجمة، كان مؤلمًا جدًا… يتباهون باحترافهم للغات الأجنبية، ويمسحون البلاط باللغة العربية الفصحى. وأنا التي نصحتني المترجمة إكرام صغيري بالتمكّن من اللغة العربية أكثر، ومطالعة الكتب التراثية في اللغة العربية الفصحى.

ثم ماذا؟ ثم بعد سنتين تخرجتُ من معهد الترجمة، بعد أن أنجزتُ مذكرة التخرج، في ترجمة المرادفات في سورة البقرة، وكان ذلك الشيء الوحيد الذي فرحتُ بإنجازه واستمتعتُ بفعله. أخذ الجميع شهاداتهم، واخذتُ أنا عقدتي مع الترجمة، وغادرت المكان وأنا أودّع أحلامي التي لم تتحقق، وأخذتُ عهدًا على نفسي بتحقيقها خارج أسوار الجامعة.

وبعد عدة سنوات ترجمتُ مقالًا يتجاوز 4 آلاف كلمة، وهذا المقدار لم أترجمه حتى في سنتين من الجامعة، لقد كان هذا الإنجاز بمثابة حبة مخدّر لألم ذلك الجرح الذي سببته لي الجامعة. وأنا فخورة بذلك المقال أكثر من شهادتي الجامعية.

أشكرك على قراءتك. ويسرّني استقبال رسالتك، أو طلبك لخدماتي، أو استشارة في الكتابة

بصدر رحب على واتساب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حقوق الصورة البارزة: الصور المجانية من ووردبريس


اكتشاف المزيد من مدوّنة دليلة رقاي

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

رأيان حول “كيف صنع لي معهد الترجمة عقدة مع الترجمة نفسها؟

أضف تعليق