كانت رحمة تجلس على الأريكة وتسترجع ذكريات الحادثة المُروّعة، فهي لم تنسَ أبدًا ذلك المشهد، فقد حُفر بكل قسوة في وجدانها.
كانت صديقتها دائمًا تدعوها للخروج من تلك الحالة، وتعود للحياة مجددًا، لكنها استمرّت في رفض النداء. وفي ليلة مظلمة، كانت النافذة مفتوحة، وقد تسللت منها نسمات باردة، فقامت مسرعةً لتغلقها.
فلاحظت حركةً غريبةً خلف الستارة، تجمّد الدم في عروقها من الخوف، لكنها قررت أن تحرّك الستارة وتعرف من خلفها. اقتربت بحذر وكل أوصالها ترتعد، وكانت المفاجأة.
لم يكن خلف الستارة لصٌ أو خاطف، ولم تكن قطة ولا فأر ولا حتى خفاش. المتخفّي خلف الستارة كانت رحمة نفسها. كانت رحمة تقف مصدومة، يا إلهي كيف ومتى أصبح مني نسختان؟
بدأ تتمتم ببعض المأثورات والدعوات الخافتة، لتختفي نسختها الثانية، نسختها كانت تبدو ككائن ظلامي، لم يمسسه نورٌ قط. لكنها كانت تقترب منها أكثر، ولا يبدو أنّ لها أيّ نية في المغادرة.
وهنا بدأ فصل حكاية أخرى من حياة رحمة.
كان هذا أول اختبار لشجاعتها، كان لديها خيار الهرب من الباب، أو الصراخ ليأتي أهلها، لكنها لم تفعل، بل واجهت مصيرها.
التقت رحمة بنفسها التي تركتها خلفها، وأغلقت عليها كل الأبواب المؤدية للحياة، حبستها في تابوت الذكريات، وتركتها هناك تتعفّن دون أن تُلقي لها بالًا.
كانت تظنّ أنه من السهل أن تهرب من ذكرياتها، وأنّ حبسها هو الصواب. لكنها لم تتخيّل يومًا أنّها ستقف في مواجهة نفسها، بهذا الشكل.
كان لديها حلّان أحلاهما مر، فإما أن تهرب وتصرح فيستيقظ كل من في المنزل على صوتها. أو تقف لمواجهة رحمة الأخرى، الهاربة من تابوت الذكريات.
وقفت رحمة النسخة أمام رحمة الحقيقية وبدأت في إفراغ القمامة من داخلها، كانت رائحة العفن لا تُحتمل، ورغم ذلك لم تتوقف. كانت رحمة تصرخ وتطلب منها التوقف لأنها لم تكن قادرة على رؤية ما هربت منه لسنوات.
كان ذلك أصعب موقف تعرضت له في حياتها، لأنّ أصعب ما في الحياة ليس الخيبات التي نتعرّض لها، بل الأصعب مواجهتها بعد الهرب، والتصالح معها بن الإنكار. فحين يتعلّق الأمر بالاعتراف يُصبح الجميع ممثلين، لكنّ الفرق أنّ الممثل الحقيقي يأخذ الأجرة، لكن نحن ندفعها.
كانت نسختها تصرخ وتشير إلى كل الذكريات، وتصف الحوادث والمواقف وكل شيء خبّأته رحمة خلفها وواصلت حياتها كأنّ شيئًا لم يحدث. هي لا تعرف كيف تتصرّف.
بدأت رائحة الجراح والعفن تنتشر في الغرفة، ورحمة تطلب من نسختها التوقف… كانت منهارة تمامًا من هول ما يحدث، وبدأت تتوسّل إليها وتقول:
سأفعل أي شيء فقط توقفي…
أرجوك! كشفك للماضي بهذه الطريقة يحرق روحي، ويُلهب داخلي.
فردت عليها:
لن أتوقف حتى تنظري بعين الحب لكل هذا العفن، وتحتضني كل قطعة منه.
كان هذا أصعب امتحان في حياة رحمة، نظرت إلى ماضيها المُتراكم أمام ناظريها. وبدأت ترى الكثير من الدموع هنا، والجراح هناك… خيبات لا تُحصى، وصعوبات تكسر الظهر. أيام قاسية وليال مظلمة.
وكانت تفكر كيف لروحها المهشّمة المحطمة أن تحتضن كل تلك القسوة.
إنها امتحان صعب، صعبٌ جدًا يا إلاهي…
قارب الفجر على البزوغ، ورحمة تنظر إلى ماضيها بامتعاض وليس في نيتها أي رغبة باحتضانه. فهي لا تنظر إليه على أنّه ماض وحسب، هي ترى كل الوجوه خلف الرّكام، الوجوه التي أحبّتها ووثقت بها، هي ترى نفسها الضعيفة والمنكسرة، هي ترى حماقاتها وسذاجتها.
إنّ أصعب شيء على الانسان أن يعترف بضعفه أمام نفسه، أن يكشف أماكن الظلام التي تختبئ في سراديب أعماقه، لا يصعب على رحمة احتضان ماضيها وحسب، بل يصعب عليها الإعتراف أنّ كل ذلك لم يكن ليحدث لو أنّها لم تعط الإذن للفاعلين.
ثم لمحت رحمة نورًا خافتًا يتقدّم خلف الستارة. بقيت رحمة ونسختها تنتظران وتترقبان هل هذا نور الفجر أم أنه نور زائر آخر.
كانت رحمة مندهشة مما ظهر من خلف الستارة. إنها رحمة أخرى مشرقة ومتوهجة، كانت تقترب من رحمة وتجاوزت نسختها كأنها غير موجودة.
اقتربت منها واحتضنتها وهمستفي أذنها:
أنا روحك السماوية المشرقة.
كل الماضي الكئيب الأسود، هو مجرّد أوهام واختبارات مررت بها لتنضجي، لماذا تنظرين إليه على أنه أنت.
أنت رحمة والرحمات لا تخشى الخيبات.
اسمحي للقبس بداخلك أن ينير عتمة دهاليز نفسك. وتقبّلي ظلامك، فلولا الظلام الذي فيك، ما خلق الله الرحمة، ولا جعَل لخلقه جنّة.
إقبل ماضيك واحتضنيه، تقبّلي ظلامك وإلا لن تُشرق شمسك أبدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن أعجبك ما أكتبه من قصص، ومحتوى، ولديك ما تقوله فلا تتردد في التواصل معي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ